الإسلام السياسي: كيف خُطف الدين لمحو الدولة؟ قراءة تحليلية في التجربة… وخلفيات التوظيف
منذ بداية القرن العشرين، تصاعدت ظاهرة "الإسلام السياسي" في العالم العربي، وفي القلب منها: مصر.
لكن ما بدأ بشعارات "العودة إلى الدين"، تحوّل سريعًا إلى أداة لتهديد الدولة ذاتها، ومحاولة استبدال الوطنية بعقيدة حزبية، والدستور ببيعة، والحوار السياسي بفتوى.
فهل كانت هذه الحركات بالفعل امتدادًا لروح الإسلام؟
أم أنها مشروع بديل للهوية الوطنية، قائم على استغلال الدين لتحقيق أهداف سلطوية؟
---
من الجماعة إلى الجماعات: الجذور غير البريئة
نشأت جماعة "الإخوان المسلمين" سنة 1928، على يد حسن البنا، في وقت كانت فيه مصر تترنح بين الاحتلال البريطاني، وحلم الدولة الحديثة.
لكن التاريخ يُخبرنا أن هذه النشأة لم تكن بريئة تمامًا.
وثائق بريطانية من الأرشيف القومي بلندن كشفت أن جهات استخباراتية (مثل جهاز S.I.S) كانت تتابع وترعى تمدد الجماعة، باعتبارها "بديلًا قابلًا للتوظيف ضد القومية المصرية واليسارية الناشئة".
(مصدر: Mark Curtis – Secret Affairs: Britain's Collusion with Radical Islam)
دعم الجماعة في البداية لم يكن نابعًا من عمق شعبي، بل من رغبة في خلق كيان فوق الدولة، يشكك في شرعيتها، ويعرض "الطاعة لله" كبديل عن الولاء الوطني.
---
خطاب مزدوج… وعداء متوارث مع الدولة
الإسلام السياسي اعتمد منذ بدايته على خطاب مزدوج:
أمام العامة: الدعوة للفضيلة، ومحاربة الفساد.
في الجوهر: السعي لاحتكار السلطة واعتبار الدولة "علمانية كافرة" يجب تطهيرها.
وهذا ما برز في مذكرات سيد قطب، وخاصة كتابه "معالم في الطريق"، الذي صاغ فيه نظرية "الجاهلية الجديدة"، داعيًا لإعادة تأسيس المجتمع من الصفر، لأن "مجتمع المسلمين الحقيقي لم يعد موجودًا".
هذا التصور يُشكّل إلغاء تام لفكرة الدولة الحديثة، ويضع الجماعة أو التنظيم في موقع "المختار الإلهي"، بينما تُصوّر مؤسسات الدولة كأدوات باطلة.
---
تجارب عملية… انتهت بالدم والفشل
في السودان، حكمت "الجبهة الإسلامية" بزعامة حسن الترابي، ثم البشير، لسنوات طويلة:
النتيجة؟ حرب أهلية، انفصال الجنوب، وتدهور اقتصادي شامل.
(المصدر: تقرير منظمة Crisis Group – Sudan: Preventing State Collapse, 2021)
في إيران، ورغم اختلاف المذهب، إلا أن نموذج "الحكم باسم الدين" أنتج دولة أمنية، تمارس القمع باسم الثورة، وتواجه عزلة دولية مستمرة.
(المصدر: Human Rights Watch – Annual Reports on Iran)
في مصر، تجربة الإخوان القصيرة (2012–2013) كشفت الوجه الحقيقي:
تجاهل كامل لفكرة الدولة، مؤسساتها، القضاء، الإعلام.
محاولات لاختراق الجيش والشرطة تحت غطاء "التمكين".
انقسام شعبي حاد، وانهيار الثقة في الدولة.
وانتهت التجربة بصدام شعبي واسع، أسقطهم خلال عام واحد فقط.
---
لماذا فشل "النموذج الإسلامي" في الحكم؟
1. الخلط بين الدعوة والسلطة:
ما يُصلح النفوس لا يُصلح الدول.
2. غياب مشروع وطني:
لم يطرحوا رؤية اقتصادية، ولا نموذجًا تعليميًا، بل فقط وعود "النهضة" الغامضة.
3. الاستعلاء باسم الدين:
خصومهم ليسوا معارضين… بل "أعداء الله".
4. الاعتماد على تنظيم دولي يعلو على السيادة الوطنية.
---
الإسلام… والدولة الوطنية
الإسلام كدين ليس في عداء مع الدولة، بل يقرّ بضرورتها.
النبي محمد أسس دولة في المدينة لها دستور (وثيقة المدينة).
الخلفاء الراشدون عملوا ضمن إطار مؤسسي، عرف القضاء، الشورى، الديوان.
لكن ما فعله الإسلام السياسي هو تحويل الدين من قيمة جامعة إلى أداة صراع سياسي.
واستغلال المشاعر الدينية لتقويض الدولة الحديثة.
---
الخلاصة:
الإسلام السياسي فشل لأنه لم يكن مشروعًا إصلاحيًا… بل مشروع استبدال: استبدال الولاء الوطني بالولاء للتنظيم، واستبدال الدستور بالشريعة كما يراها هو، واستبدال المواطن بعضو الطاعة.
كل تجربة واقعية لهذا النموذج انتهت بانهيار أو قمع أو عزلة.
مصر ليست في حاجة إلى "دولة دينية"، بل إلى "دولة عادلة" تستلهم قيم الإسلام في أخلاقها، لا في بنيتها السياسية.
---
أبرز المراجع:
1. Mark Curtis – Secret Affairs: Britain's Collusion with Radical Islam
2. سيد قطب – معالم في الطريق
3. Gilles Kepel – Jihad: The Trail of Political Islam
4. تقرير Crisis Group – Sudan: Preventing State Collapse
5. Human Rights Watch – Reports on Iran
6. د. رفعت السعيد – تاريخ الجماعات الإسلامية في مصر
7. د. عبد الوهاب المسيري – رحلتي الفكرية
8. وثائق الأرشيف القومي البريطاني (متاحة جزئيًا من خلال Guardian Archives)
Comments
Post a Comment