هل كان المصريون القدماء من أفريقيا جنوب الصحراء؟

 


رد تاريخي وعلمي على النظرية الأفروسنتريكية


إعداد وتوثيق: مشروع "مصري" — رسائل من حضارة مصر إلى شبابها والعالم



---


مقدمة


خلال العقود الأخيرة، انتشرت عبر الإنترنت نظرية تُعرف بـ"الأفروسنتريك" (Afrocentrism)، والتي تدّعي أن الحضارة المصرية القديمة كانت حضارة سوداء بالكامل، وأن المصريين القدماء كانوا منحدرين من أفريقيا جنوب الصحراء (Sub-Saharan Africa). هذه النظرية – رغم شعبيتها في بعض الأوساط الثقافية والسياسية – تفتقر إلى أدلة تاريخية وجينية ولغوية صلبة. في هذا المقال، نعرض ردًا علميًا موثقًا على هذه الادعاءات.



---


ما هي النظرية الأفروسنتريكية؟


"الأفروسنتريك" هي حركة فكرية نشأت في الولايات المتحدة، تهدف إلى إعادة الاعتبار للدور الإفريقي في التاريخ العالمي، خصوصًا في مواجهة المركزية الأوروبية.

أبرز من روّجوا لأفكارها:


تشكا أنتا ديوب (Cheikh Anta Diop) – مؤرخ سنغالي.


يوسف بن يوكنان (Yosef Ben-Jochannan) – مؤرخ أمريكي من أصول إثيوبية.



يدّعي هذا التيار أن مصر القديمة كانت "حضارة سوداء" من جذور أفريقية جنوب الصحراء، وأن كل ما قدمته من علم وفن ومعمار هو جزء من "تراث زنجي" طُمِسَ بفعل الاستعمار الأوروبي والعربي.



---


الرد العلمي والتاريخي


1. الدليل الأنثروبولوجي (الجمجمة والبنية الجسدية)


دراسات أنثروبولوجية عديدة قارنت بين جماجم المصريين القدماء، وسكان جنوب الصحراء:


دراسة Barry Kemp (جامعة كامبريدج) وClines and Brace (1993) أثبتت أن جماجم المصريين القدماء أقرب من حيث الشكل إلى شعوب شمال إفريقيا (الليبيين، الأمازيغ) وليس إلى شعوب نيجيريا أو السودان الجنوبي.


دراسة Zakrzewski (2007) على هياكل عظمية فرعونية في "الجيزة وسقارة" وجدت أن البنية الجسمانية لم تكن مطابقة للبنية النمطية لشعوب جنوب الصحراء.



📚 المصدر:


Zakrzewski, S. R. (2007). Population continuity or population change: Formation of the ancient Egyptian state. American Journal of Physical Anthropology.




---


2. التحليل الجيني (DNA)


في 2017، نشرت مجلة Nature دراسة تحليل جيني على مومياوات مصرية من "أبوصير الملق" تعود للفترة من الدولة الوسطى حتى العصر الروماني.


النتائج:


المومياوات أقرب جينيًا لشعوب الشرق الأدنى القديم (Levant وAnatolia).


التركيب الجيني أظهر نسبة ضئيلة من جينات جنوب الصحراء (Sub-Saharan), وزادت النسبة فقط في المصريين المعاصرين بسبب الهجرات لاحقًا.



📚 المصدر:


Schuenemann, V. J. et al. (2017). Ancient Egyptian mummy genomes suggest an increase of Sub-Saharan African ancestry in post-Roman periods. Nature Communications.




---


3. الدليل اللغوي


اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) لا تنتمي للغات النيجر-كونغو (وهي عائلة لغات جنوب الصحراء)، بل تنتمي إلى فرع "الأفروآسيوية" (Afroasiatic) الذي يضم:


المصرية القديمة


الأمازيغية


السامية (العربية، العبرية)


الكوشية



📚 المصدر:


Diakonoff, I. M. (1981). Afroasiatic Languages. The Moscow School of Comparative Linguistics.




---


4. النقوش والتصاوير الفرعونية


المصريون القدماء صوّروا شعوب العالم بألوان وأنماط مميزة:


المصري: لون أحمر بني، أنف مستقيم، شعر متموج.


النوبي (من جنوب مصر والسودان): أسود اللون، أنف عريض، شعر أفريقي.


الليبي والآسيوي: ألوان فاتحة وشعر مستقيم.



هذه التصاوير تعكس وعي المصريين باختلاف الشعوب عرقيًا وثقافيًا، وتُفنّد الادعاء بأنهم رأوا أنفسهم "سودًا" وفق التعريف المعاصر.


📚 المصدر:


Wilkinson, R.H. (1994). Symbol and Magic in Egyptian Art.




---


5. الهوية الحضارية للمصري القديم


المصري القديم لم يعرّف نفسه بلون البشرة، بل بالانتماء إلى "الأرض المقدسة – كيميت".


كان الفخر مرتبطًا بالعلم والعمارة والزراعة، لا بالعرق أو الأصل البيولوجي.




---


لماذا تنتشر هذه النظرية؟


رد فعل على التهميش التاريخي للسود في مناهج التعليم الغربية.


رمزية الحضارة المصرية كمصدر فخر عالمي، يسهل استغلاله سياسيًا وثقافيًا.


الفراغ العلمي في بعض الأوساط الإفريقية، ما جعل الأفكار العاطفية تنتصر على الدليل التاريخي.




---


موقف مصر من هذه الادعاءات


مصر القديمة حضارة متفردة نشأت في وادي النيل الشمالي، وامتدت علاقتها بجنوب النيل ولكنها لم تكن نابعة منه.


مصر لم تكن بيضاء أوروبية ولا سوداء زنجية، بل حضارة متوسطية شمال إفريقية ذات خصوصية فريدة.


التنوع الجغرافي والبيئي هو سر قوتها، لكنها حافظت على هويتها الثقافية باستقلال كامل.




---


الخلاصة


الادعاء بأن المصريين القدماء كانوا من أفريقيا جنوب الصحراء لا يستند إلى دليل علمي قوي، بل إلى دوافع سياسية وهوياتية.

الرد لا يجب أن يكون عنصريًا أو دفاعيًا، بل معرفيًا:

مصر حضارة هجين… لا تُختزل في لون، ولا تُمتلك من تيار سياسي، ولا تُستخدم كرمز دعائي.



---


المصادر العلمية المعتمدة:


1. Schuenemann et al. (2017) – Nature Communications



2. Zakrzewski, S.R. (2007) – American Journal of Physical Anthropology



3. Kemp, Barry (2005) – Ancient Egypt: Anatomy of a Civilization



4. Diakonoff, I. M. (1981) – Afroasiatic Languages



5. Wilkinson, R.H. (1994) – Symbol and Magic in Egyptian Art



6. Trigger, B.G. (1994) – Paradigms in 




Comments