هرم باكا.. اللغز الذي لم يكتمل: حين تركت الحضارة المصرية مشروعها في قلب الصخر




في قلب هضبة الجيزة، وعلى بُعد بضعة كيلومترات جنوب أهرام خوفو وخفرع ومنقرع، تقع منطقة غامضة تُعرف باسم زاوية العريان. للوهلة الأولى قد تبدو منطقة مهجورة من الرمال والحجارة، لكن تحت سطحها يرقد واحد من أكثر أسرار العمارة المصرية القديمة إثارة للجدل: ما يُعرف اصطلاحًا بـ«هرم باكا»، أو كما يسميه الباحثون أحيانًا "الهرم غير المكتمل".
ورغم مرور أكثر من قرن على اكتشافه، لا يزال العلماء مختلفين حول طبيعته: هل هو مشروع لبناء هرم توقف في منتصف الطريق؟ أم قاعدة لهيكل آخر لم يُكشف عن غايته بعد؟


---

اكتشاف الصخر المفتوح

تعود قصة الموقع إلى مطلع القرن العشرين، حين بدأ المهندس والأثري الإيطالي أليساندرو بارسانتي (Barsanti) أعمال حفرٍ استكشافية في منطقة زاوية العريان سنة 1905، ضمن بعثات خدمة الآثار المصرية (ASAE).
وخلال تنقيبه، اكتشف ما بدا في البداية وكأنه أساس هرمٍ ملكي، لكنه كان مختلفًا عن أي نموذج معروف: حفرة صخرية ضخمة منحوتة بمهارة غير مألوفة، تنحدر تدريجيًا إلى أسفل حتى تصل إلى غرفة سفلية عميقة منحوتة بالكامل في الصخر الصلد.
بلغ عمق الحفرة أكثر من عشرين مترًا، وامتدت منها ممرات ضيقة وغرف جانبية ذات دقة هندسية استثنائية، وكأنها نُحتت بخطة واعية ومقاييس دقيقة لا يمكن اعتبارها عملًا تجريبيًا بسيطًا.

في أثناء الحفر، لاحظ بارسانتي أن الغرفة الرئيسية بدأت تمتلئ بالمياه الجوفية بسرعة، حتى اضطر إلى وقف العمل. في تقاريره التي نُشرت بين عامي 1906 و1912، أشار إلى أن الموقع “يبدو كأنه مشروع معماري ضخم لم يكتمل بناؤه أبدًا، لكنه صُمم بعقلية هندسية متقدمة”.


---

من هو "باكا"؟

في إحدى الكتل الحجرية التي عُثر عليها قرب الموقع، وُجد نقش يُحتمل أنه يحمل اسم «باكا» أو «بيكا» — وهو ما فسره عالم المصريات الأمريكي جورج رايزنر (Reisner, 1942) على أنه اسم أمير ملكي، ابن الملك جدف رع (خلف خفرع في الأسرة الرابعة).
وبذلك يرجع تاريخ الموقع إلى نحو منتصف القرن السادس والعشرين قبل الميلاد، أي في الفترة التي شهدت أوج تطور العمارة الهرمية.

لكن رغم نسب الاسم، لم يُعثر على أي بقايا لكتل هرمية فوق السطح، ولا دلائل واضحة على أن البناء كان معدًا ليأخذ شكل هرم تقليدي. هذه المفارقة هي ما جعلت علماء المصريات يقفون طويلًا أمامه.


---

الفرضية الأولى: مشروع لم يكتمل

تُعد هذه الفرضية الأكثر قبولًا في الأدبيات الكلاسيكية: أن زاوية العريان كانت مشروعًا لبناء هرم ملكي جديد، لكن لسببٍ ما — ربما وفاة الأمير أو تغير خطط الدفن — توقف العمل قبل تشييد الكتلة الحجرية العلوية.
ويستدل أنصار هذه الرؤية بأن شكل الحفرة الصخرية يُشبه قاعدة الهرم السفلى، وأن الممرات الداخلية تشبه من حيث التكوين هندسة ممرات أهرامات الجيزة.


---

الفرضية الثانية: قاعدة لهيكل غير هرمي

غير أن هذا التفسير لا يجيب عن أسئلة جوهرية:
لماذا كل هذا الجهد في النحت العميق داخل الصخر بدلًا من البناء الصاعد كالمعتاد؟ ولماذا غابت دلائل التخطيط الهرمي على السطح تمامًا؟

في كتابه «The Pyramids: The Mystery, Culture, and Science of Egypt’s Great Monuments»، يشير عالم المصريات التشيكي ميروسلاف فيرنر (Verner, 2001) إلى أن زاوية العريان لا تُظهر أي بقايا هندسية لزاوية ميل هرمية، مما قد يعني أن البناء لم يكن هرميًا أصلًا، بل قاعدة لمنشأة طقسية أو هندسية من نوع مختلف.
وهذا الرأي عززه بحث ميداني حديث نشره يوسف وكارتر براون (Youssef & Brown, 2016) في مجلة علم الآثار المصرية (JEA)، أكدا فيه أن تكوين الصخور ومستوى المياه الجوفية بالموقع لا يناسبان مشروع دفن ملكي تقليدي، بل أقرب إلى منشأة “تجريبية أو وظيفية” داخلية.


---

الفرضية الثالثة: منصة تجريبية هندسية

يذهب بعض المهندسين المعاصرين، مثل مارك لهنر (Lehner, 1997)، إلى أن زاوية العريان ربما كانت منشأة تجريبية استخدمها المصريون القدماء لاختبار تقنيات البناء تحت الأرض، أو لدراسة خصائص الضغط والرطوبة في الصخر، قبل تطبيقها على الأهرامات الكبرى.
وبتحليل اتجاهات الممرات، تبيّن أن بعضها يتوافق مع محاور فلكية محددة، ما يشير إلى وعي هندسي فلكي حتى في مرحلة "الاختبار"، وهو ما يعزز فكرة أن الموقع كان مختبرًا معماريًا للطاقة والبنية والاتجاهات، لا مجرد قبر غير مكتمل.


---

رمزية الاسم والموقع

الاسم الحديث «زاوية العريان» لا علاقة له بالعصور القديمة، بل أُطلق على المنطقة في العصور الوسيطة والعثمانية نسبةً إلى أحد الأولياء أو الزهّاد الذين أقاموا في تلك الجهة — أي “العريان” بمعنى “الزاهد”.
لكن المفارقة أن هذا الاسم الحديث التصق بأحد أكثر المواقع المصرية غموضًا من حيث “التجريد المعماري” — بناء عارٍ من الكسوة الحجرية، كأنه "عريان" من ثوبه الهندسي.
أما الاسم القديم «باكا»، فيحمل في اللغة المصرية القديمة معنى مرتبط بـ"الروح" أو "الضياء"، ما يمنح الهرم بعدًا رمزيًا يتجاوز فكرة المقبرة إلى فكرة الانتقال أو التحول.


---

قراءة هندسية معاصرة

لو نظرنا إلى المخطط السفلي للموقع، نجده أشبه بـ"هيكل مفتوح" لا يكتمل في الأعلى، وكأن الهدف منه دراسة العلاقة بين العمق، والمياه، والاتجاهات السماوية.
هذه العناصر الثلاثة — الماء، العمق، والفلك — تتكرر في رمزية العمارة المصرية كعناصر وصل بين الأرض والسماء، وهو ما يجعل بعض الباحثين يطرحون أن المشروع ربما لم يكن هرميًا أبدًا، بل نموذجًا لهيكل طقسي أو هندسي ذي وظيفة روحية أو علمية محددة.


---

الخلاصة

ما بين حجرٍ غارق في الصخر ونقشٍ يحمل اسمًا غامضًا، يظل هرم باكا في زاوية العريان لغزًا لم يكتمل — ليس لأنه فشل، بل لأنه ربما كان مشروعًا لتجربة أكبر لم تُكشف بعد.
فالموقع لا يقدم دليلًا على مقبرة ملكية ولا على بناء هرمي، بل على مرحلة تجريب هندسي معمّق في مسيرة الفكر المعماري المصري القديم، الذي لم يكن مجرد بناء للحجارة، بل بحثًا عن المعنى في التكوين نفسه.
وربما حين نعيد النظر في زاوية العريان، لا نراها “هرمًا غير مكتمل”، بل مفتاحًا لمفهومٍ جديد تمامًا في فلسفة البناء القديمة.


---

المراجع:

1. Barsanti, A. (1905–1912). Rapport sur les fouilles de Zaouiet el-Aryan. Annales du Service des Antiquités de l’Égypte (ASAE, Vols. 6–12).


2. Reisner, G. A. (1942). A History of the Giza Necropolis, Vol. II. Harvard University Press.


3. Lehner, M. (1997). The Complete Pyramids. Thames & Hudson.


4. Verner, M. (2001). The Pyramids: The Mystery, Culture, and Science of Egypt’s Great Monuments. Grove Press.


5. Youssef, K. & Brown, R. (2016). Reevaluation of the Zawyet El Aryan Site in Light of New Geoarchaeological Evidence. Journal of Egyptian Archaeology, Vol. 102.



Silent Egypt Observer Independent Analysis from Egypt

Comments