ما بين الصوت والنيل




أراقب كيف يتكلم العالم، وكيف تسكت مصر، وأدرك في هذا الصمت ما يشبه الفهم، لا الغياب. هناك أمم تعبّر بالضجيج، وأمم تعبّر بالزمن، ومصر كما أراها اختارت الزمن. في عالمٍ يفسّر كثيرًا ويفهم قليلًا، تبدو مصر كمن يعرف أكثر مما يقول. صمتها ليس فراغًا، بل حضور من نوع آخر، إيقاع قديم يسري في الأرض كما يسري النيل في الذاكرة.

أظن أن الصمت هو اللغة الأولى التي تعلّمتها مصر، لغة تُقال قبل أن تُكتَب، وتُفهَم قبل أن تُسمَع. وحين يسارع الجميع لإعلان من المخطئ ومن المنتصر، تبقى هي تراقب ما بينهما، تُصغي لا للكلمات، بل لما وراءها.

لم أرَ مصر يومًا تميل لطرفٍ واحد، كانت دائمًا في المنتصف، بين الصحراء والبحر، بين العقل والإيمان، بين الذاكرة والرغبة. كأن التوازن فيها ليس سياسة، بل طبع في الجغرافيا، حتى النيل نفسه يبدو وكأنه يتذكّر كيف يتصالح المتناقضان.

كل جيلٍ يتخيّل أنه يرى العالم للمرة الأولى، وحين يطيل النظر في عمق صورته، يجد في آخرها ملامح مصر، ثابتة، تراقب بصبرٍ قديم. ليست ترفض الحركة، لكنها تحركت من قبل في كل طريقٍ يسلكه الآخرون الآن.

في الناس من يصرخ ليُروى، وفي المصري ما يغنيه أن يعيش القصة دون أن يحكيها. يحملها في نكتةٍ، في تعبٍ صبور، وفي طريقة النجاة بلا شكوى. لا يبحث عن المجد، بل عن المعنى، وربما لهذا يبقى.

حين يتعب العالم من صوته، سيحتاج أن يتذكّر ما يعنيه السكون، وحين يفعل، سيجد مصر هناك كما هي، هادئة، حاضرة، كأنها لم تغادر المشهد قط. فالعالم بدأ بصمت، وربما لا ينجو إلّا به.

https://lnkd.in/dAbeCCm4


Silent Egypt Observer Independent Analysis from Egypt

Comments