٦ أكتوبر: التاريخ الذي كشف حدود القوة الإسرائيلية وأعاد هندسة الردع الإقليمي
منذ نشأتها، سعت إسرائيل إلى بناء هيمنة إدراكية تسبق الهيمنة العسكرية؛ أي السيطرة على وعي الخصوم قبل السيطرة على الأرض.
تُقدّم نفسها كقوة لا تُقهر، تمتلك جهازًا استخباراتيًا خارقًا وتفوقًا تكنولوجيًا يضمن النصر الدائم. هذه الصورة الذهنية كانت أقوى أسلحتها وأكثرها تأثيرًا في العالمين العربي والغربي معًا.
لكن في السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، انكسرت هذه الصورة في ست ساعات.
لم يكن ذلك اليوم مجرد معركة عسكرية ناجحة، بل لحظة كاشفة كشفت الحدود الحقيقية للقوة الإسرائيلية، وأعادت صياغة مفهوم الردع في المنطقة بأكملها.
---
١. إسرائيل كقوة تصوّر ذاتها
قبل الحرب، كان يُنظر إلى إسرائيل بوصفها "المعجزة العسكرية" في الشرق الأوسط، رغم أن بنيتها الفعلية كانت محدودة:
عدد سكان لا يتجاوز ثلاثة ملايين، اقتصاد هش قائم على المعونات، ومساحة لا تمثل سوى ثلث سيناء.
قوتها لم تكن في الميدان بل في "الإدراك" — أي في الصورة الذهنية التي روجتها عبر الإعلام والدبلوماسية.
هذه ما يُعرف في الأدبيات الأمنية بـ القوة الإدراكية (Perceptual Power).
لكن ما بُني على الإدراك، انكشف في أول اختبار واقعي.
---
٢. أكتوبر.. لحظة انكسار الإدراك
حرب أكتوبر كانت انقلابًا في المفهوم قبل أن تكون في الميدان.
الجيش المصري لم يهاجم إسرائيل فحسب، بل هاجم فكرة إسرائيل عن نفسها.
تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وتبيّن أن الردع لا يُبنى على التكنولوجيا وحدها، بل على التخطيط والمفاجأة والإيمان بالقدرة.
ومنذ تلك اللحظة، دخلت إسرائيل في أزمة إدراكية مزمنة — لم تعد تعرف أين يبدأ أمنها وأين ينتهي.
---
٣. من الغرور إلى الانتحار الاستراتيجي
منذ ١٩٧٣ وحتى اليوم، ظل الغرور الإسرائيلي هو الحلقة الأضعف في منظومة الأمن القومي لديهم.
فالتوسع المفرط، والاعتماد على الردع بالقوة العارية، حول إسرائيل من دولة تبحث عن الأمن إلى دولة تنتج الخطر لنفسها.
وما يحدث اليوم في حرب غزة يمثل ذروة هذا المسار:
آلة عسكرية ضخمة بلا هدف سياسي محدد، وجيش يقاتل في فراغ إدراكي، بينما العالم يرى للمرة الأولى هشاشتها الأخلاقية والعسكرية في آنٍ واحد.
---
٤. الثبات المصري وإعادة هندسة الردع
في المقابل، واصلت مصر بناء نموذج مغاير للردع؛ ردع هادئ طويل المدى.
لا تلوّح بالقوة لكنها تملك القدرة على استخدامها حين يلزم.
من أكتوبر ٧٣ حتى أكتوبر ٢٠٢٥، احتفظت القاهرة بدورها كـ"محور توازن" يمنع الانفجار.
وما يجري اليوم في العريش من مفاوضات لوقف الحرب في غزة يعيد إنتاج منطق أكتوبر ذاته:
التحكم في المسار لا في الميدان، وإدارة التوازن بدل فرض السيطرة.
---
٥. من الردع العسكري إلى الردع الإدراكي
تجاوزت مصر منذ زمن فكرة الردع العسكري التقليدي، لتصل إلى مستوى أكثر تعقيدًا: الردع الإدراكي (Cognitive Deterrence).
وهو أن تردع خصمك لا باستخدام القوة، بل بتوجيه إدراكه بحيث لا يجرؤ على تجاوز خطوطك الحمراء.
هذا الردع يتطلب شرعية تاريخية، وثقة في النفس، واتساقًا في الموقف — وهي ثلاث ركائز ما زالت مصر تحتفظ بها بوضوح.
---
خاتمة: بين اللحظة والزمن
إسرائيل تتحرك في لحظة، ومصر تتحرك في زمن.
الأولى تتفاعل بانفعال تكتيكي، والثانية تخطط بوعي حضاري طويل المدى.
لذلك، رغم الفارق في القوة الظاهرية، يبقى التوازن قائمًا لصالح القاهرة.
ففي النهاية، القوة التي لا تفهم حدودها تُدمّر نفسها،
أما الدولة التي تعرف قدرها وحدودها، فهي التي تعيد هندسة التاريخ من جديد.
Comments
Post a Comment